Friday, August 6, 2010


قراءة في رؤيتناالأخلاقية
بقلم‏:‏ د‏.‏ حنا جريس



في مجتمعنا بعض من الصحة يستعيدها وقت الأزمات‏,‏ فمن العلامات الإيجابية للصحة أن تهتم المؤسسات البحثية الأهلية والرسمية بالمشكلات الاجتماعية لاسيما الخطيرة منها‏,‏ ومثال ذلك أن الأعوام الخمسة الأخيرة شهدت زيادة في الدراسات والأبحاث والندوات التي ناقشت قضية التراجع الأخلاقي والخلخلة الحادثة في النسق القيمي المصري‏.‏
اهتمام محمود لكنه لايزال محدودا فربما نحن بحاجة ماسة إلي حوار كبير وجاد يتناول ما نحن فيه بصراحة وشجاعة حتي نستطيع تشخيص أمراضنا كمقدمة لمحاولة العلاج‏.‏
عدة أبحاث نشرت حول القضية أهمها ـ من وجهة نظري ـ في مجال البحث الميداني‏..‏ هذا البحث قام به فريق من الباحثين بقيادة الأستاذ الدكتور أحمد أبو زيد عميد كلية الآداب و الذي صدر في العام الماضي عن وزارة التنمية الإدارية بعنوان‏'‏ الأطر الثقافية الحاكمة لسلوك المصريين واختياراتهم‏,‏ دراسة لقيم النزاهة والشفافية والفساد‏'.‏ وفي مجال التنظير الفكري والفلسفي البحث الذي قدمه الدكتور سيف الدين عبد الفتاح بعنوان القيم والبنيان القيمي بين مدخل المقاصد والمدخل السفني‏'‏ رؤية إسلامية وسنعود لكليهما في مقالات قادمة‏.‏
وأهمية هذه الأعمال العلمية أنها تفتح الباب نحو القراءة الصريحة للواقع والمحاولة الجادة لإيجاد حلول أصيلة وليس مجرد ترديد لما تعودناه من تصورات خيالية‏.‏
غير أن المكتبة المصرية تفتقد حتي الآن لدراسة نقدية وفلسفية للأخلاق في مجتمعنا‏,‏ تلك الدراسة التي ينبغي ان تحاول الإجابة عن سؤالين‏:‏ السؤال الأول عن المرجعية‏,‏ وفيه نتحري مصدر منظومة القيم والنسق الأخلاقي في المجتمع المصري‏,‏ أما السؤال الثاني فيتعلق بالالتزام الأخلاقي والذي يتحري الأسباب التي تجعل الفرد ملتزما بإرادته بالمنظومة الأخلاقية‏.‏
وعندي الإجابة عن السؤالين تقع في مجال ما يمكن أن نطلق عليه الرؤية الكونية الشاملة التي تتبناها الجماعة ونعني بها كيف تتصور الجماعة موقعها في الحياة وكيف تري هدفها المركزي الذي ينعكس علي مجمل علاقة الجماعة مع غيرها‏,‏ كما ينعكس علي الفرد ليشكل نسقه القيمي الخاص الذي يحدد علاقته بنفسه والآخرين‏.‏
وعندي أن المجتمع المصري التقليدي كان مركز تصوره للحياة هو اتساق الجماعة والتزامها ببعضها البعض وهو ما نعرفه بقيم الإيثار والشهامة والنخوة والأريحية‏,‏ وربما ساعد علي ذلك نظام الزراعة الفيضية‏,‏ وربما عمقته طبيعة علاقة الجماعة المصرية بحكامها منذ القرن السادس قبل الميلاد وحتي أوائل القرن العشرين حيث انفصل المصريون عن حكامهم فكانت حركة المحكومين تتجه نحو مزيد من التصاق الجماعة وتماسكها الذي هو سر بقائها‏,‏ ورفض التفتت ضمانا لتيسير الحياة‏.‏
ولتحقيق ذلك زاوج المصريون بين رصيدهم الحضاري التاريخي وما استجد علي هذا الرصيد من أديان وافدة عليه مثل المسيحية والإسلام‏,‏ وأيضا ما جاءهم من ثقافات حطت عندهم من مختلف بقاع العالم القديم‏.‏ ويبدو لي أن هذا هو التوصيف الحقيقي لما درجنا علي قوله إن مصر كانت تستوعب من يأتيها فاتحا أو تاجرا‏,‏ مبشرا أو داعيا‏,‏ كما يمكن أن يفسر الجملة الشهيرة إن بأنها جعلت للمسيحية والإسلام مذاقا مصريا خاصا‏.‏
وأظن أن المجتمع المصري دمج الكل في رؤيته الكونية التي تتمحور بالأساس حول تماسك الجماعة المصرية‏,‏ لتصبح القيمة الرئيسية لهذه الجماعة‏,‏ هي رعاية بعضها البعض‏,‏ ويمكن لقراء محايدة للتاريخ المصري أن تستنتج أن الحروب الأهلية بين مكونات المجتمع المصري كانت من الندرة بحيث يمكنك عدها علي أصابع اليد الواحدة‏,‏ صحيح أن المجتمع المصري كان يعاني من الأزمات المتكررة والمستمرة إلا أنه كان قد اختار دائما الحلول الوسط لضمان تماسك الجماعة‏.‏
هذه الصيغة المصرية التقليدية تعرضت للاهتزار تحت ضغط تحولات الحداثة وعمليات التحديث‏,‏ فجماعة بهذ التماسك من الصعب ان تتحدث فيها عن ولادة هينة ولا حتي صعبة للفرد الذي هو وحدة التمدن والمجتمع الحديث‏.‏
وهنا علينا ان نري كيف كان التحول نحو الأصولية الدينية‏,‏ التي تعتمد علي النص في حرفيته مرجعية وحيدة‏,‏ كانت هذه الأصولية احدي أشكال تقلصات التحول نحو الحداثة‏.‏ حيث شكلت رؤية مناهضة للتقاليد المصرية واستبدلتها برؤية مركزها النص كما قرأته وفسرته الطبقة المتعلمة الجديدة‏,‏ تلك الطبقة استفادت من اتساع رقعة التعليم العام كأحد منجزات التحديث‏,‏ فتعلمت القراءة لكنها لم تشارك في انتاج الفلسفة الحديثة أو العلم الحديث‏,‏ ومن ثم كان أول النصوص وأهم النصوص لديها في أزمتها المركبة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا هو النص الديني‏.‏ أصبح النص الديني في مركز الرؤية ومن ثم اصبح الوعي الأخلاقي الجمعي لا يدافع عن تماسك الجماعة ولكن يحارب من أجل حقوق النص فانتشر التدين وتراجعت الأخلاق‏.‏

No comments:

Post a Comment