Friday, June 18, 2010

مقطع من يوميات ضابط شرطة مصري




اليوم الأول لي في المكتب بعد حصولي علىَ ترقيةٍ جديدةٍ بتوصيةٍ خاصة من مساعد وزير الداخلية الذي كان له معي وقفةٌ مُشـَرِّفة خلال التحقيق الإداري المخفـَف عن موتِ أحد المواطنين المصريين بين يديّ و .. أيدي ثلاثة مخبرين وملازم أول و .. صُول!
السيد اللواء هو زوج شقيقتي الكبرى، وكنت قد حكيت له عن تفاصيل موت الرجل في مكتبي، وكيف فقعنا له عينـَه اليُسرى، وقام أصغر المخبرين سـِنًا باغتصابه أمام الجميع، وكنا نضحك حتى الثمالة، والرجل يستغيث، ويصرخ، وينزف دمًا من أنفه، ويقول حسبي الله ونعم الوكيل فيكم جميعًا، لكن موجة الضحك التي انتابنا جميعًا جعلت الله في آخر اهتماماتنا، ففي مصر تعثر على الله في المسجد، وفي الكنيسة، وفي المدارس والجامعات والمصانع وداخل البيوت، أما في أقسام الشرطة والتخشيبات وزنزانات سجون ومعتقلات هذا الوطن البائس، فيخرج لك إبليس لسانه في كل شبر يجمع السجان و .. السجين، فنحن لنا معبود واحد هو الرئيس مبارك!
نزلت من البيت متعاجبا، مخترقا الأرض بحذائي الأسود اللامع، وأنا أشعر أن طولي زاد ضعفًا أو أكثر، ولو كان بيدي كرباج لألهبت ظهور كل الذين يمرون بجواري ليعرفوا قيمتي في عهد قانون الطواريء الذي يدوس على كل مواد الدستور، ويصفع قفا أي مصري يتبجح وقاحة مدعيًا أنه ليس حشرة، بل إن بعض الحمقى يؤمنون أن الله عندما كرّم بني آدم لم يستثن المصريين، فهؤلاء يخدعون أنفسهم، فنحن لا نعرف غير الرئيس مبارك، نطيعه ما أمرنا، ونسلخ من يظن أن فيه نفخة من روح الله، ونستدعي مَلـَك الموت كلما غضبنا على أحد المشاغبين الذين يتوهمون أن لهم حقوقا في بلدهم!
فتح لي السائق باب السيارة، ولاحظت أن انحناءته قرّبت رأسـَه من ركبتيه، وهذا يعني أن ترقيتي القادمة ستكسر ظهره عندما يفتح لي باب السيارة.
لاحظت أن السيارة تلمع كأنها خارجة لتوها من الأجانس، وقام السائق بتهنئتي، وأقسم لي أنه وزوجته وأولادهما لم يناموا الليل من الفرحة، فكل نجمة جديدة فوق كتفي هي يوم عيد لأسرته!
قلـّصتُ مساحة الابتسامة على شفتي، ففي مصر كلما زاد عدد الذين تدوسهم قدماك بقربك من السلطة، يتقلص بالتالي المزاح، والضحك، والتواضع، وتتناسب المسافة بينك وبين الناس تناسبًا طرديا كالتي بين الزعيم ورعاياه!
نقطة الإنكسار في المنحنى البياني لمسكنة المصري تبدأ عندما يفغر فاه، وترتسم على وجهه ابتسامة متخلفة، ويوميء برأسه موافقًا عندما يسمع عن أهمية طاعة ولي الأمر، وأنها من طاعة الله، حتى لو كان ولي الأمر مستبدًا، وطاغية، وسفاحًا، وجزارًا، وديكتاتورًا، وابن ستين ألف كلب!
إننا نحن المستبدين الصغار أكثر قسوة، وغلظة، ومهمتنا أن يعتاد الناس على العبودية، وأن لا تلتقي عيونهم بعيون ممثلي السلطة، وأن شريطا سينمائيًا واضحة معالمه يخترق فورًا خيال أي مصري، فيرى نفسه معلقًا في سقف مكتب مأمور القسم، أو رافعًا قدميه العاريتين في الهواء، ومخبران يتناوبان ضربهما بالفلكة حتى تنفجر الدماء منهما!
وصلت إلى مكتبي في قسم الشرطة بعد أقل من نصف ساعة، وتلقيت التهاني بالدعوات لي أن أصبح مساعدًا لوزير الداخلية، وشعرت كأنني أمتلك الدنيا وما فيها، فالسلطة تتحول إلى هيبة، فخيلاء، ثم يصدق كل منّا نفسه بأنه يستطيع أن يقول للشيء كن .. فيكون!
جاءني إتصال هاتفي من أحد اللواءات الذي قَلّدَه الرئيس مبارك وسامًا مع ضابطين آخرين، وكان الثلاثة متهمين بتعذيب مواطنين حتى الموت، وحكم عليهم القضاء بالسجن ثلاث سنوات مع وقف التنفيذ، فالسلطة التنفيذية في مصر هي بين أيدينا، فنحن سوط الزعيم فوق ظهر أي قاض أو أي برلماني ولا تساوي أحكامُ الأول وحصانة الثاني جناح بعوضة فما فوقها!
شجعني كثيرا، وأكد لي أهمية أن تكون قبضتي حول رقبة المواطن قوية، وخانقة، ووعدني بالإفلات من العقاب حتى لو أمرت باغتصاب كل مصري يقع حظه العاثر بين يدي، فالمهم التأكيد على أن المتوفىَ تعذيبًا كان يُعـَرَّض أمن الدولة للخطر حتى لو كان لص ماشية، أو نشَالا في حافلة، أو مُحتالاً في المترو!
رأيت أربع كرتونات مانجو على أرضية مكتبي، وسألت الحارس عنها، فقال لي بأنها هدية من أحد الأثرياء وقد أرسلها مباشرة من مزرعته القريبة من القاهرة عندما علم بترقيتي، فتذكرت أن ابن هذا الرجل كان محبوسَا مع مجموعة من الشباب بتهمة تحويل سكن أحدهم إلى وكر للبغاء الطلابي والبانجو الجامعي، لكنني مزقت المحضر، وأعدت كتابته مرة أخرى بعدها غادر الشاب قسم الشرطة مع والده وبصحبتهما المحامي الشهير وعضو الحزب الوطني الحاكم والصديق الشخصي لجمال مبارك.
طلبت فنجان قهوة لأحد الزملاء الذي جاء إلى مكتبي للتهنئة، وسألني عن الخوف الخفي خلف وجه تتراقص مساماته فرحًا وسعادة!
صارحته بحقيقة مخاوفي أن يغضب المصريون من أجل كرامتهم، وتبدأ محاصرة أقسام الشرطة من أهالي الذين أذقناهم الويلات، والذين ماتوا تحت التعذيب، أو أن تتم مطاردة الضباط والمخبرين المتورطين في جرائم ضد الإنسانية داخل أقسام الشرطة، أو يؤذي الذين اضطهدناهم زوجاتنا وأولادنا!
لم أر من قبل زميلي يضحك كما فعل اليوم، وبعدما هدأت موجة الضحك التي خشيت أن تصيب قلبه بنوبة لا يقوم بعدها، قال لي: سأعلـّمك ما لم تعلـّمك إياه كل سنوات خبراتك البوليسية، وحكايات زملائك عن علاقاتهم بالمصريين الداخلين أحياءً، والخارجين أنصاف موتى!
لدينا كارت بلانش من الرئيس مبارك شخصيًا، وقد مرّره عن طريق اللواء حبيب العادلي وزير الداخلية، وفيه أمْرٌ بأنْ نـُحيل حياة أي مصري إلى جحيم ما بقي له من عمر، وأن نتعامل مع الحيوانات والحشرات والجيفة بتحَضـُرّ وتمـَدُّن مقارنة بالإنسان المصري، وأن لا نضعف لحظة واحدة أمام استغاثات، وتوسلات، وأشياء خرافية مثل الحرام، وهذا لا يرضي الله، وحسبي الله ونعم الوكيل، وحتروح من ربنا فين يوم القيامة، فالله وكتبه ورُسله وملائكته لا قيمة لهم عندي، ونحن لا نطيع غير سيدنا، وولي أمرنا، وحارسنا الذي يُطعمنا، ويسقينا، ويحمينا في الدنيا والآخرة .. إنه الرئيس حسني مبارك!
استراحت نفسي، وأحسست بأنه لو عاد نوحٌ مع سفينته، وغمر طوفان أرض مصر كلها، فإنني سأرفض الصعود مع نبي الله، وسأصعد إلى برج الجزيرة ليعصمني من الماء!
ثم أكمل حديثه قائلا: أتفهمُك جيدا لو أن الشعب المصري في كامل يقظته، لكن حقنة التخدير كانت مضاعـَفة، فهي خليط من تديّن زائف، وخوف من أجهزة الأمن، ووسائل إعلام يقوم على أكثرها منافقون، وأفـّاقون، وجبناء، يبيع الواحد منهم أهله في مقابل رضا السلطة عنه.
انضم إلينا قبل نهاية الجلسة الزميل الذي ركل أحد القضاة بحذائه، وحكى لنا عن الخوف الذي تسلل إلى رجال القانون ممثلي عدالة السماء على الأرض، وأن عشرات الآلاف من القضاة والمحامين والمستشارين لاذوا بعدها بالصمت، وعادوا إلى بيوتهم والعرق يتصبب من وجوههم، ولم يتمكن إلا القلة النادرة منهم من النظر في عيون أولادهم وزوجاتهم، ولم تصعد دعواتهم حتى إلى السماء الدنيا، فالله، تعالى، يحب النبلاء، والشجعان، والذين يحترمون نفخة الروح فيهم.
اتفقنا أن نلتقي مساءً في نادي ضباط الشرطة مع زوجاتنا وأولادنا لعلي أتلقى مزيدا من التهاني، وأشعر بأمان أكثر، فنحن أكثر من مليون رجل أمن تتراوح رُتبهم ما بين اللواء وزير الداخلية ونزولا إلى ملازم ثان، وصول، ومخبر، وأخيرا بلطجي ومسجل خطر نستعين به في المظاهرات فيكسر عظام المشاغبين، ونغمض نحن أعيننا عن جرائمه، وتعاطي المخدرات، واغتصاب الأطفال.
تناولت طعام الغداء في المكتب على وقع صرخات تهز السماوات السبع، وفهمت أن المستبدين الأصغر منّا يقومون بواجبهم، وينتزعون اعترافات عن جرائم من مواطنين لم يرتكبوها، ويعبثون في أجساد المصريين، ويضعون العصيّ في مواضع العفة منهم، ويهددونهم في آبائهم وزوجاتهم وأولادهم.
جعلت أرتشف بعد الغداء كوبًا من الشاي بالنعناع متلذذا بتداعي الأفكار والذكريات والحكايات عن العقوبات التي نقوم بإنزالها على المصريين، أفرادٍ وجماعات، وكيف أن قرى بأكملها كانت تتعرض لعقاب جماعي لارضاء نزوة أحد الضباط.
عندما لفظت فلاحة سراندو آخر أنفاسها في مستشفى دمنهور كانت قبلها بيومين تتلقى وجبات من الضرب والتعذيب في قسم الشرطة، ولما احتج الأهالي على موتها بين أيدي ضباط الشرطة، قامت أجهزة الأمن بمعاقبة القرية بأكملها، وتحرشوا بنسائها إمعانًا في إذلال رجالها، فتوجيهات الرئيس مبارك ينبغي أن تـُنفـَذ بحذافيرها، وكراهيته للمصريين يجب أن تتضاعف في قلوبنا بغضاء لهؤلاء الأوغاد الجبناء الذين يعصون الله، لكنهم يخافون الرئيس. يزعمون خشيتهم رب العباد، لكن قلوبهم ترتعد فزعًا من الرئيس، ومن آلاف المساعدين في طغيانه، والذين تتلمذوا على يديه في أشد أنظمة القهر استتبابًا!
لذتي الكبرى عندما يطلب مني رئيسي المباشر اختطاف متهم فور صدور حُكم البراءة، وهنا تتواطيء ثلاثة أجهزة ضد المواطن: القضاء بالصمت، وعدم متابعته اجراءات الافراج عن البريء، وطبيب السجن الذي يخون قـّسـَمَ الشرف، فيتحالف معنا، ويصبح شاهد زور وهو يغض الطرف عن آثار التعذيب على جسد السجين، وضابط الشرطة الذي يبصق على أحكام القضاء.
عدتُ إلى البيت، وخلدت إلى نـُعاس قصير استعدادًا لسهرة في نادي ضباط الشرطة، وحكيت لزوجتي عما فعلته اليوم، فكانت فخورة بي، لكنها أبدت قلقها من أن يتعرض أحد المضطهـدين المظلومين إلى ابنتنا في طريق عودتها من المدرسة، أو يتآمر عدة أشخاص ممن اغتصبنا أو قتلنا أحد أفراد عائلتهم، لكنني أقسمت لها أن كل الأمور هادئة، وأن مخاوفها قد تصبح معقولة لو أننا في كولومبيا أو بنما أو نيكاراجوا أو الجزائر أو اليمن أو الصومال أو روسيا البيضاء أو قيرجزستان، أما في مصر فمفاتيح الفرح والحزن في جيب الرئيس، والمصري يخاف من خيال رجل الشرطة، ومن البريد الإلكتروني، ومن أي شخص يوقفه في الطريق ويسأله عن هويته حتى لو كان محتالا أو هاربًا من أحكام القضاء.
قصصت على زوجتي عشرات الحكايات التي تكفي الواحدة منها أن تـُفجّر جهاز حفظ الكرامة في مشاعر شعبنا ، وقلت لها هناك عدة ملايين من الأسباب التي مَرَّ عليها مَرور الكرام شعبٌ لا يغضب، فلا تتوقعين رؤية مصريين غاضبين يحاصرون قسم الشرطة، أو يقتربون من ضابط مثلي يطيع الرئيس مبارك!
حكيت لها عن المواطن فريد شوقي أحمد عبد العال الذي تم القبض عليه، وبعد وجبة التعذيب لم يتحمل جسده ضغط المخبرين على عنقه، فلفظ أنفاسه الأخيرة، لكن الشرطة أجبرت والده على دفن الجثة فجر اليوم التالي، وفي حراسة ست عربات من قوات الأمن المركزي.
وصلنا إلى النادي في حدود الساعة الثامنة مساءً، ووجدت خبر ترقيتي قد انتشر بين الأعضاء والعاملين وحتى أفراد الحراسة والجرسونات في المطعم، وجاء مدير النادي لتهنئتي، ثم قام بتذكيري بطلب سابق له كنت قد نسيته، وهو يريد فقط تخويف جاره المقيم في الشقة المقابلة ليعرف أنه في حماية ضابط شرطة كبير يستطيع لو أراد أن يطرد كل سكان العمارة!
كان حديث الضباط عن الدكتور محمد البرادعي يتسم بنوع من الثقة أن المعارضة المصرية ستسقط في المصيدة، وحتى لو قام الرئيس بتغيير بعض مواد الدستور ليترشح رئيس جمعية التغيير، وقام باراك أوباما نفسه( القذافي قال بأن اسمه الحقيقي بركة حسين أبو عمامة!) بمراقبة صناديق الاقتراع، فإن اللواء حبيب العادلي قادر على استبدالها قبل أن يتناول المراقبون الأجانب طعام الإفطار.
قال أحد الضباط الصغار بأنه لو جمع الدكتور البرادعي عشرة ملايين توقيع بالتفويض له فإنها في عُرف النظام لا تساوي قيمة أوراق صحف للف الفول والفلافل، وأنك لا تستطيع أن تقدم للذئب احتجاجًا مكتوبًا على افتراسه للحملان والغزلان الضعيفة، ويمكن أن يحصل منافس جمال مبارك على تسعة وأربعين في المئة من الأصوات، لكن ابن الرئيس سيصبح الرئيس الابن، وستنتهي مصر بين يدي مبارك الثاني، وسنقترض من إسرائيل بفوائد مضاعفة لشراء مياه تعويضا عن منع مياه النيل عن المصريين.
طوال السهرة ونحن نتبارى في حكايات عن التعامل الوحشي والذئبي والغليظ والمهين مع المصريين، وكان معنا الضابط محمد محمود الشرقاوي الذي كان يفتخر بأنه اعتقل أسرة مكونة من أحد عشر شخصًا ، واقتادهم أمام جيرانهم إلى نقطة شرطة زهراء حلوان، وأذاقهم العذاب ضعفين.
ابتسم له ضابط آخر وقال له بأنه قام بتعذيب المزارع أحمد محمود سالم في قسم شرطة كفر صقر، وصعدت روحه إلى بارئها دون أن يرف للضابط جفن!
اتسعت ضحكة الضابط الجالس بجواره وقال وهو ينفخ نفسه حتى كاد القفص الصدري يتهشم:أما أنا فقد ألقيت جثة ناصر محمد حسين عارية حتى تعفنت في مزارع قرية ميدوم ببني سويف، ولما احتج الأهالي حاصرنا القرية، وتلقى رجالها ونساؤها وجبات متتالية من التعذيب والتحرش، وتعلموا بعدها أن المصري حصل على شهادة حشرة موقعة باسم الرئيس حسني مبارك!
في المنضدة المجاورة كان يجلس أحد الضباط المعروفين بسادية لا مثيل لها، ونظر إلينا، وارتفعت نبرة صوته، وقال وهو ينتظر أن نقوم من أماكننا ونعانقه على بطولاته: أما أنا فقد جعلت أربعة اشخاص يعترفون في مركز شرطة طوخ على قتل خالد عبد التواب ، وتم الحكم عليهم فعلا، فالسجن أرحم من السلخ في تخشيبة الشرطة، وبعد ثلاث سنوات تم القبض، مصادفة، على القاتل الحقيقي، ولم تعاتبنا أي جهة في مصر كلها، فنحن في حماية الرئيس مبارك .. عدو المصريين الأول.
وهنا وقف أحد الضباط المتمرسين في التعذيب وكأنه خرج من بطن أمه وفي يده كرباج، وقال وهو ينظر باستخفاف للجميع لأن حكاياتهم تصلح للأطفال: أما أنا فقد قمت بتعذيب بدر الدين جمعة بقسم المنتزه، وقمت بصعقه بالكهرباء في جهازه التناسلي، وأحضرت زوجته وهددته بأننا سنغتصبها أمامه إن لم يعترف بقتل ابنته الصغيرة جهاد( 9 سنوات ) رغم أنه هو الذي أبلغ عن اختفائها.
وفعلا وقـَّع الرجل على اعتراف كامل من نسج خيالنا، وفيه تفاصيل تعذيب ابنته، وحلق شعر رأسها، ونقلها إلى المزلقان، وإلقاء جثتها في المصرف المواجه له. ولم يتراجع الرجل عن اعترافاته خشية أن يقع بين أيدينا مرة أخرى، وحكم عليه القضاء بخمس سنوات سجن، وكان السجن جنة للأب مقارنة بعبقرية التعذيب في الفكر الأمني المصري.
وبعد فترة عادت الطفلة إلى البيت، وقامت والدتها بابلاغ شرطة المنتزه بعودتها، فقمنا بحبسهما، الأم والطفلة، ثلاث عشرة يوما.
ونظر الضابط إلى الجميع وقال بلهجة المعتز بجرائمه: ألم أقل لكم أنني الأكثر ولاءً للرئيس حسني مبارك؟
ظهر القلق على أحد الضباط الذي يقال عنهم من العامة بأنهم شرفاء، وأمناء، ومثلهم عشرات الآلاف ممن لم يأخذوا حظهم من الإعلام، لأننا، نحن أعداء الشعب، المسلطة علينا الأضواء، فقال وعلامات الخوف تكاد تقفز على وجهه كله: أخشى أن يأتي الوقت الذي يخاف ضابط الشرطة من السير في أي شارع، أو الخروج من بيته بدون حراسة، أو حتى الذهاب إلى عمله!
ثم أكمل قائلا: نحن على مرمى حجر من انتفاضة لا تبقي ولا تذر، وسيتم سحلنا في شوارع القاهرة ومعنا الرئيس مبارك وولداه وزكريا عزمي وصفوت الشريف وحبيب العادلي وأحمد عز ورؤساء تحرير الأهرام والأخبار والجمهورية، فالشعوب إذا انتقمت لكرامتها تصبح الأشجار مشانق على جانبي الطريق.
إنني أطالبكم بالتخفيف من القبضة الحديدية، فهؤلاء أهلنا، وأبناء شعبنا، ومواطنو بلدنا!
وفجأة انفجر الجميع ضحكاً، وظننا أن به مسًَا من الجن والجنون، وقال له أحدنا: هل تستطيع أي قوة في مصر أن ترفع رأسها من تحت حذاء الرئيس مبارك؟ ثلاثون عاما والمصريون يمضغون الصبر صمتًا، وكل طائفة تعادي الأخرى، والجيش انفصل عن الشعب، والشعب أصبح شعبين، والمعارضة انقسمت سبعين شعبة، كل شعبة تؤكد أنها الوحيدة التي شربت من ماء النيل.
كانت فرحتي عارمة بالاستماع إلى الزميل الذي كاد يقسم بأن الرئيس مبارك حيٌّ لا يموت، وأننا لا نعبد إلا إياه، وأن ملايين التفويضات المصرية للدكتور البرادعي ستنتهي إلى سلة المهملات، وأننا نحن الأغلبية الساحقة في وطن تحول إلى مقبرة لم نقرأ أمامها الفاتحة بعد...
انتهت السهرة، وعدت إلى البيت وأنا أنظر من نافذة السيارة ولا أسمع إلا همسًا، فالدكتور البرادعي في لندن يجتمع مع ثلاثمئة مصري وقد طلب أن لا تنقل وسائل الإعلام وقائع المؤتمر، والدكتور أيمن نور في المستشفى، ومجدي أحمد حسين لا يتذكره إلا بعض الأوفياء من أصدقائه، والإخوان المسلمون منشغلون بالمعارضة تحت قبة البرلمان حيث يلعب الجميع مثل توم وجيري، والأقباط شغلهم النظام بالزواج من ثانية، والبهائيون منشغلون بخانة الديانة في البطاقة الشخصية، وشباب مصر على الفيس بوك يتبادلون صورهم، وينشئون مجموعات لا تحرك شعرة من موضعها، ومصر لم تعد هبة النيل، والرئيس مبارك يحكم بنصف غيبوبة، والشعب المصري يتحكم فيه خيال المآتة فيسقط قلبه في ركبتيه، والشيخ خالد الجندي تتسع ابتسامته الجميلة لكنه لم يسمع عن السجون والمعتقلات وانتهاك كرامة المواطن، والفنانات يقمن الدنيا احتجاجًا على رأي أحد الكتاب في الحجاب، لكنهن لم يسمعن عن قانون الطواريء ...
وصلت وزوجتي إلى البيت قبل منتصف الليل بقليل، وسمعت ضحكة خفيفة آتية من الحمام وزوجتي تنزع باروكتها الصفراء، وسألتها عن سبب فرحتها، فقالت لي: الآن يمكنني أن أطمأن عليك وعلى أولادنا وبناتنا، ولو مشيت بمفردك في حقول مظلمة وخرج عليك كل الذين عذبت أقاربهم، واغتصبت زوجاتهم، وهتكت أعراض بناتهم، وعلقتهم كالخرفان في سقف مكتبك الأنيق، فلن يمسك أحد منهم بسوء، لأن المصريين لم يغضبوا بعد، فـَهـُم لا يرون في مصر كلها مشهدا واحدا يستحق أن يغضبوا من أجله أو من أجل أولادهم!


محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو في 15 يونيو 2010
Taeralshmal@gmail.com

No comments:

Post a Comment